“ليس جسمي هو اللبيس بل إسمي” … جعجع: أنا رجل مواجهة لا رجل هروب
كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:
هو تموز. هو الشهر الذي يحمل ثلاثة تواريخ لا تنتسى في الروزنامة القواتية: 12 تموز ذكرى صدور قرار براءة سمير جعجع في قضية الكنيسة. 19 تموز قرار العفو. و26 تموز يوم خروج «الحكيم» من اعتقال دام أحد عشر عاماً وثلاثة أشهر وأربعة أيام. ولأن إعادة رسم الأمكنة والأزمان والأحداث في الأذهان ضرورة – للتاريخ والحاضر والمستقبل – قصدنا في تموز هذا مقرّ «الحكيم» في معراب. وفتحنا معه باب الذكريات المطعم بعضها بنكهة اليوم. وبين الماضي والحاضر دوّن لنا من تجاربه الحلوة والمرّة جملة: لا معنى لحياة من دون معنى. جملة اختصرت الكثير.
رائحة الغاردينيا تشقّ القلب. هنا معراب. هنا مقرّ القوات اللبنانية. وسمير جعجع، إبن بشري، هنا. وبشري تستمرّ ذاك اللمعان الذي نراه في عيني الحكيم كلما تردد اسمها على لسانه. بشري اليوم ثكلى بشهيدين: مالك وهيثم طوق. فلنترك التحقيقات تجري وبعدها حديث آخر.
آسرٌ هو حضور هذا الرجل. يلقي التحية بتودد وبابتسامة ويحاول أن يبعث الامل من قلبِ الظلمة. هو يعرف تماماً – بعد كل التجارب التي مرّ فيها – أن السياسة فنّ الممكن لكنه متأكد من أمر آخر: أن الحقّ لا يُعطى لمن يسكت عنه. صورة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير في صدر مكتبه، «المستوفة» طاولته بعشرات الملفات.
بعيداً عن اليوميات السياسية الفارغة في القاموس اللبناني قصدناه لنسمع بعد وبعد عن التجارب التي خاضها وهو الثائر – الإنسان دائماً، حتى ولو اجتمع الكلّ على جعله قميص عثمان في كثير كثير مما اقترفوه.
بين عين الرمانة وبشري
«أنا إبن بشري» يبتسم حين يقول ذلك. و»أنا إبن القوات» يفتخر حين يردد ذلك. «ولدتُ في بيروت في حارة المجادلة في عين الرمانة. وكنا، كلما سنحت لنا الظروف، نهرول صوب مدينة جبران خليل جبران «أول فرصة يلا ع بشري». وبين عين الرمانة وبشري كبر «الحكيم». لم يكن مشاغباً في صغره لكنه كان كثير الحراك. يستيقظ قبل شروق الشمس ويخرج الى الضوء. يتنفس منه الصعداء. ويزور البيوت القريبة التي تكون مضاءة باكراً. أحبّ الناس دائماً. والده فريد كان في فرقة موسيقى الجيش اللبناني، إكتسب منه الصبر، ووالدته ماري كانت الستّ القوية القادرة التي منحته سمة التحدي وعدم الرضوخ. توفيا بعد خروجه من السجن وهو ما كان يصلي من أجله دائما «إنشالله ما يموت بيي وإمي وأنا في الإعتقال».
منذ حداثته إلتحق بخلية مدرسته ثانوية سعيد في عين الرمانة. في البداية إلتحق بخلية حزب الوطنيين الأحرار. سنة واحدة. ثم انتسب الى الكتائب وحصل على بطاقته الحزبية العام 1971، سلمه إياها بيار الجميل «ويومها كان بيار الجميل الذي نعرفه لكنني لم أكن سمير جعجع الذي عرفه في ما بعد». يبتسم لذلك.
أول إجتماعات حزبية شارك فيها كانت في بيت الكتائب في الشياح، أيام الريّس سعيد غنطوس. كانت إجتماعات دورية. لقاءات ومحاضرات ومحادثات». لكن، لماذا قرر أن يكون حزبياً باكراً؟ ماذا دفع المراهق سمير جعجع ليشارك حزبياً؟ ماذا كانت قضيته الأولى التي جذبته الى النضال؟ يجيب «كانت الشيوعية يومها على كل شفة ولسان، مثلما تقولين اليوم «حزب الله». تعرفين أن الأفكار الشيوعية كانت يومها السائدة، وكانت تغزو العالم وتلاقي مواجهة كبيرة. وكان يفترض بنا كشباب أن نجد مكاننا. دافعي الأول الى الإنخراط الحزبي كان الفكر الشيوعي الشمولي في المفهوم الماركسي. وكنا خائفين مما نسمعه على لسان الكبار – أهلنا وأساتذتنا والكهنة. كنا نسمع أخباراً عن الشيوعية والقضاء على أرزاق الناس. عدا عن ذلك لم تكن تتلاءم الأفكار الشيوعية عامة مع الفكر السائد في الأحياء المسيحية. لم تتلاءم افكارنا وأفكارهم يوماً».
نحو الطبّ
مرّت مراهقته هكذا. النضال ضد الشيوعية في البداية. ويوم قرر أن يصبح طبيباً أهمل العمل الحزبي وأعطى الدراسة الجامعية الوقت والجهد ويقول «تناقشت كثيراً مع أهلي عن إختصاصي ومستقبلي. شقيقي جوزف كان يحب الرياضيات. كانت إليه مثل «شربة المياه». أما أنا فاتجهت أكثر نحو العلوم الطبيعية والتاريخ والجغرافيا. ولم يكن دارجاً آنذاك من إختصاصات سوى الهندسة والمحاماة والطب. أنا اخترت الطبّ ليس عن عبث. سألتُ نفسي: ما هو الإختصاص الذي سيجعلني أخدم الناس وأتعاطى الشأن العام. فوجدتُ ان الطب وسيلتي الى ذلك. لقد ولدتُ في الخدمة العامة وأؤمن بها وأنا المولود في عائلة جد بسيطة، متواضعة، قانعة، عادية. درستُ ست سنوات كاملة الطب وطموحي كان إختصاص الجراحة العامة».
إندلعت الحرب في لبنان العام 1975. وكان سمير جعجع يومها في رابع سنة طب. «كانت حرب وجود. نكون او لا نكون. نبقى أو لا نبقى. تركت الجامعة العام 1977 وانتقلت الى صفوف المواجهة».
في الجامعة، في الجامعة الأميركية في بيروت، تعرف سمير جعجع الى طلاب من إختصاصات مختلفة شاركوا لاحقاً في النضال بينهم: فادي افرام وفؤاد أبي ناضر وألفرد ماضي وروجيه ديب. لكن، سؤالنا هنا: ما هو الشيء الذي جعل إسم سمير جعجع الخارج من رحم بشراوي وعائلة متواضعة يتقدم بسرعة على كثيرين بعضهم من عائلات ناشطة حزبياً وسياسياً؟ يجيب «صعبٌ أن يتحدث الإنسان عن نفسه. يومها كان فؤاد أبي ناضر مقاتلاً ممتازاً وأخلاقه لا يعلى عليها، وفادي افرام كانت لديه أيضاً مواصفات ممتازة. ويستطرد: أنا مقاتل بالفطرة. أكثرية شباب بشري مثلي يمتلكون الروح القتالية واتخاذ قرار المواجهة. كل إنسان على وجه هذه الأرض لديه طباع وعقل مختلفان. هناك أشخاص يولدون بأذن موسيقية وهناك من يولدون ولديهم القدرة على المواجهة بالفطرة».
تحرير الكورة
إنتقل سمير جعجع الى المواجهة المباشرة. كان ذلك ضرورة. ويقول: «الفلسطينيون يومها كانوا قد وصلوا الى أطراف شكا والكورة وكانوا يتجهون نحو بشري، وكانت ترافقني مجموعة خاصة من المقاتلين فقمنا بهجوم معاكس وحررنا الكورة. فالتفّ حولي كل أولاد الكورة ذوي التوجهات اللبنانية. والقوى النظامية في حزب الكتائب رأوا ذلك بأم العين فسلموني قيادة الجبهة. إستوعبت يومها كثيراً من الشباب نظّمتهم ودربتهم وأصبحت مسؤولاً عسكرياً في الشمال. كان هناك مفوض آخر ولو نظرياً في الشمال لكن عملياً أصبحت أنا مفوض الشمال». ويستطرد: «الهجوم بالمضاد على الكورة، من قِبل جهات كثيرة، لم يكن مزاحاً. فرقتنا العسكرية عادت وخرقت. كنت أتقدم بسرعة».
لاحقا، أصبح جسم سمير جعجع «لبيساً» لكل ما حصل. كل الإتهامات اليوم تصب عليه. لماذا؟ يجيب: «سأخبرك. ليت الناس قبل توجيه التهم يدخلون في التفاصيل ليروا الحقيقة. ليس جسمي هو «اللبيس» لكن لأن إسمي برز في القوات بعد الشهيد بشير الجميل حصل ذلك. لأنني سمير جعجع تعرضت – ولا أزال – الى حملات الإتهام الدائمة. كل المصائب التي جرت أُلصقت بسمير جعجع. الفريق الآخر بارع في الإعلام والدعاية. هو لا يفعل شيئاً إلا الدعاية والإعلام لذلك هو فاشل في كل شيء آخر. لا خطط ولا ملفات. هل تتصورين أنه في عز دين ملف الرئاسة اليوم والتعطيل المقصود يغمضون أعينهم ويطبلون للحوار. كل ما يريدونه هو تعطيل الرئاسة لتعديل الطائف».
الإسم «اللبيس»
كل القواتيين كانوا مثلي. يقول سمير جعجع ذلك ويتابع «تركوا كل شيء للدفاع عن ضيعهم ومناطقهم ولبنانهم. كانت منظمة التحرير الفلسطينية دولة. كانت أقوى من حزب الله اليوم. وكانت معها مجموعات حزبية والنظام السوري وكانوا جميعاً «طاحشين». على من برايك؟ على «العرقولة» دائماً. القوات اللبنانية كانت دائما العقبة أمام طموحاتهم. وإذا حذفنا القوات اليوم – كما بالامس – من المعادلة فمن يبقى؟ لذلك تسمعينهم يرددون اليوم: قوات وقوات… واسمي، إسم سمير جعجع بعد بشير الجميل، يضايقهم. خذي صبرا وشاتيلا مثلاً التي لم أكن موجوداً فيها، وكل التحقيقات ظاهرة، فهل تسمعين من يتهم فيها أحد؟ في قصة إهدن، كان هناك قياديون عديدون، لن اسميهم، فهل تسمعين من يتكلم عن غير سمير جعجع؟ أنا كنت أول من اصيب في أحداث إهدن وابتعدت لكن إسمي يستمر يتردد. لماذا؟ ببساطة لأن لديهم مصلحة في ذلك. إذا هاجموا إيلي حبيقه فماذا سيستفيدون؟ لا شيء، بينما يستفيدون إذا هاجموا سمير جعجع. لذلك أقول لك أن ليس جسمي هو اللبيس بل إسمي».
الوقت يتسارع. الأخبار كثيرة. فلنتحدث عن الطائف. سمير جعجع مشيت في الطائف ودفعت لاحقاً ثمن الطائف… يقاطعنا بالقول: «نعم قبلتُ بالطائف. وكل الناس تعرف أن الإتفاق ليس فظيعاً بدليل ما تشوبه من ثغرات ونقاط ومعالم غير واضحة، لكن لا يمكن الحكم على هذا الإتفاق الذي لم يُطبّق بفعل الإحتلال السوري في المرحلة الأولى ورفض حزب الله تسليم سلاحه في المرحلة التالية. مطلوب تطبيق الطائف بشقه السيادي قبل أي شيء آخر». أضاف: «هناك من نسي خطر ميشال عون حينها، وهو ما ظهر جلياً للعيان في فترة الستة أعوام التي حكم فيها. أنا قبل ذلك، لمست شخصياً هذا الخطر. صدقيني لم نكن نعرف بماذا سيقحمنا ويرمينا في كل لحظة: في الحائط، في البحر، في الجوّ… المنطقة الشرقية الحرّة، كانت حرّة، ولا أحد قادر على الإقتراب شبراً منها. لكن، حين استلم ميشال عون بدأت تتخبط بقراراته غير المبنية على خطط وتصورات واضحة أو خارطة طريق جلية. خفتُ يومها. كان يرمي ضربة هنا وضربة هناك. كنت أنام في المجلس الحربي ولا أعرف علام سأستيقظ في اليوم التالي. هو أطلق حرباً بلا أفق ومقومات مع الخارج وقام بطحشة داخلية تحت حجة توحيد البندقية، في حين يوم أصبحت لدينا دولة فعلية لم يرد توحيد البندقية مع حزب الله».
أربعة اغتيالات
ألم نقل منذ البداية: إن السياسة فن الممكن؟ هو عاد وقبل لاحقاً بميشال عون رئيساً تحت نفس الحجة.
فلنتابع. ميشال عون أراد إلغاء القوات اللبنانية لأنه لا يقبل شريكاً مسيحياً له «مع العلم أن القوات لم تكن شريكة له بل كانت مقاومة فعلية». غادر ميشال عون وسجن سمير جعجع. فهل دفع فاتورة الطائف بعد رفضه الدخول الى الوزارة مرتين والقبول بالأمر الواقع؟ يجيب: «هؤلاء لم يستطيعوا أن يحملونا أيضا فطحشوا علينا. عون طحش علينا لأنه لم يرد غيره مسيحياً على الساحة والبقية فعلوا نفس الشيء لأنهم لم يقبلوا بوجود مجموعة سيادية».
متى أدرك سمير جعجع أنه أصبح محاطاً بالخطر الإبادي الكبير؟ يجيب: «منذ العام 1991 أدركت ذلك. وأول علامة كانت إغتيال أربعة مسؤولين قواتيين في شهر واحد: إيلي ضوّ في كفرشيما، سامي أبو جوده في جل الديب، نديم عبد النور في الأشرفية، وسليمان عقيقي «شلومو» في كفرذبيان. كلهم إغتيلوا ولم يتم التحقيق في ما حصل. كانت رسالة. بعد عام إكتشفنا محاولة اغتيال يتم التحضير لها فلازمت مكاني في غدراس. بعدها بدأوا يحضرون للإعتقال. وضعوا متفجرة في جونيه إتهمونا بها. ومع كل حادثة كانوا يضعون ما يدل على أن الفاعل هو القوات. فجروا بيت الكتائب في الصيفي وتركوا سيارة فيها بندقية وبطاقة هوية باسم شخص من بيت رحمة من عيناتا. صاروا يحومون أكثر حولنا. ويوم حاولوا اغتيال ميشال المرّ ألصقوا التهمة أيضا بنا. قالوا إنهم إكتشفوا أحد الاشخاص من بيت جعجع كان يراقب بالمنظار في الجوار. حاولوا كثيراً الى حين توجوا افعالهم بحادثة تفجير الكنيسة وتمكنوا من إيجاد شخص (جريس الخوري) ساعدهم بتلفيق قصة كاملة من ورق عاد وتراجع عنها. قبلوا بشهادته ورفضوا تراجعه. واعتقلوني. نجحوا (مبدئياً) في ما سعوا إليه كثيراً».
يستذكر سمير جعجع خبرية جرت معه أثناء قضية ميشال المرّ: «كان إدمون رزق – الله يطول عمره – قد توكل عني في القضية. وكنا نقرأ الملف معاً. قلت له يوماً بروح الدعابة التي حاولت ألا تفارقني في فترة سجني: أريد أن أخبرك شيئاً؟ سألني: ماذا؟ أجبته: هل تعرف لماذا أتوا بي الى السجن واتهموني بمحاولة إغتيال ميشال المرّ على الرغم من عدم وجود دليل. أجابني: لماذا؟ قلت له: لأن المحاولة لم تنجح».
نضحك أو نبكي؟ إلصاق الإتهامات أمر يدمي القلب. نسأل الحكيم؟ لماذا لم تغادر كما نصحك من نصحك وبينهم الياس الهراوي وتدافع عن نفسك من الخارج؟ يجيب: «أنا لست رجل هروب بل رجل مواجهة. أعترف أنني لو غادرت لكانت صحتي أسوأ بكثير مما كانت في السجن. كنت أرى أن المواجهة من وراء القضبان أسهل. هذه طبيعتي وهذا ما حصل». أن يتهم قائد طالما دافع عن أمن المجتمع المسيحي بتفجير كنيسة لهو أمر فيه سذاجة وقلة نظر. فمن سيُصدق أنه قد يفعل ذلك سوى من يحقد ويريد شماعة يبني عليها. والداه كانا يسمعان بما يحدث مع إبنهما الأصغر (بعد جوزف ونهاد) ويقول: «كانت تسقط عليهم الأخبار سقوطا مدويا». هل يتذكر جعجع قرقعة الكلبشات؟ هل ما زال يحيا مشاعر تلك اللحظة التي قُبض بها عليه؟ يجيب: «لو لقطوا شخصاً بجرم السرقة ووضعوا له الكلبشات يحزن لكني كنت مدركاً أنني في قلب المواجهة مع أعدائي الذين استلموا الحكم. أنا لم أتخل عن كبريائي ولن أخجل بما لم أقترفه. من فعلوا بي ذلك كان يفترض بهم أن يخجلوا».
كانت الساعات الأولى الأقسى في تاريخ إعتقال القائد «هذا صحيح وصحيح جداً ولا أخفيك ذلك». كنت معصوب العينين ومكبل اليدين وكنت أسمعهم يأتون بشباب، برفاق، ويقولون لهم: هذا صاحبكم شاهدوه. لكني كنت أغني لهؤلاء: أنا مش ناسيكم (أغنية عمرو دياب). وحين أسمع بأحد وصل للتوّ أدق على الطاولة (يدق الحكيم دقة زمور القوات اللبنانية). ماذا يقول اليوم سمير جعجع الى هؤلاء الشباب الذين بكوا دماً وعانوا اعتقالاً؟ يجيب: «فظيعون أنتم. يعطيكم ألف عافية. أنتم مثال للقضية وتكبّرون القلب».
لكن بعض هؤلاء الشباب أصبحوا اليوم خارج القوات اللبنانية النظامية؟ يجيب: «هذا طبيعي. هناك ظروف تحدث مع كل واحد. وهناك من يتعبون. وهناك من يبدلون رأيهم وهم قلة».
كانت أياماً صعبة. أي شيء، أي شيء مهما كان صغيراً، كان من شأنه منح المعنويات في تلك اللحظة الصعبة. وهم، من يقومون بفعل الإعتقال، كانوا يرفضون أي إشارة من هذا النوع تمرّ أمام الحكيم. جلسات محاكمة كثيرة حضرها ويقول: «أول حكم صدر في حقي بالإعدام المخفف الى مؤبد كان في قضية المرحوم داني شمعون. هو الوحيد الذي انتظرته بفارغ الصبر أن ينصفني. بعدها لم أعد أنتظر شيئاً. قلت لهم: لماذا تعذبون انفسكم قولوا كل ما تريدون وارتاحوا طالما الأحكام جاهزة».
أحد عشر عاماً وثلاثة أشهر أمضاها في السجن. يقاطعنا بإضافة «وأربعة أيام». كان يعد الأيام لكنه إستمر مقتنعاً أن الليل لا بُدّ أن ينجلي. وسؤالنا له: كيف صبر كل تلك الفترة؟ يجيب: «أيقنتُ بعد وقتٍ قصير أن هذه المرحلة ستُشكل حياتي الحالية وبالتالي يفترض بي أن أملأها بشيء مفيد. صرت أقرأ أكثر عن حياة الوحدة والنساك المناضلين وتصرفت على هذا الأساس. أخذ مني ذلك نحو ستة أشهر حتى بدأت أتأقلم وأصبحت حياتي» ويتابع مبتسماً: أتتخيلين أنني بتّ أفكر أحياناً بما سأفعله حين أخرج؟ في وحدتي كنت أمتلئ بما لا يمكن لشخص أن يفعله في زحمة الحياة. كنت أفكر كيف يمكن أن ينتقل الإنسان من موجة الى موجة، من FM الى AM».
صحيح أن الصبر جميل. لكن، ثمة ممارسات كانت ترتكب تجعله لا ينام. ويقول: «كانوا يهددونني بأنهم سيأتون بستريدا ويضعونها في السجن. وكانوا يحاولون إثارة القلق دائماً لديّ بالتفتيش الذي يقومون به مرة ومرتين أسبوعياً. كانوا يدخلون ويبعثرون كل محتويات غرفتي وملابسي التي كنت أرتبها، على إعتبار أن الزنزانة أصبحت بيتي. وكانوا يطلبون مني النزول قبيل أخذي الى جلسات المحاكمة قبل ساعتين ويدعونني واقفاً على الحائط كي أصل الى الجلسة منهكاً. ضايقوني كثيراً في أول فترة. ولاحقاً قررت أن أواجههم من خلال إطلاق ما يشبه الصفارة بفمي وهم يبعثرون محتويات غرفتي».
هل كان الحكيم عتلان هم من هم في الخارج كما كانوا هم عتلانين همه؟ يجيب: «كنت مطمئناً على الشباب. هم أقوياء. لكنني أعترف أنني عتلت هم ستريدا ووالدي ووالدتي كثيراً».
في التاسع عشر من تموز صدر العفو. لبنان تغير وآن أوان الخروج. مكث سمير جعجع أسبوعاً إضافيا في السجن ريثما تترتب أوراقه وغادر في السادس والعشرين من تموز. فهل وجد عالماً لا يعرفه؟ يجيب: «أنا كنت أقرأ ما يسمحون لي بقراءته في السجن وأواكب التطور في الخارج. دخلت ولم يكن هناك هاتف خليوي وخرجت في وقت اصبح فيه هذا الهاتف بين الأيدي. وأتذكر أنني وجدت على هاتفي رسالة فائتة MISSED CALL فعرفتها (يضحك)».
ماذا تغير فيه هو؟ وماذا عن مراجعة الذات؟ يجيب: «أعترف أنني أصبحت ذات افق أوسع والسلام الداخلي لدي أصبح أكبر. وطوال الوقت كنت أقوم بمراجعة داخلية حول كل ما حدث في حياتي. مراجعة الذات لا تتحقق في الأيام المزدحمة في العمل. إنها ضرورة. إفعليها مرة واحدة في حياتك وسترين الفرق وستصبحين محصنة أكثر. إنها ربح كامل».
هل يسامح سمير جعجع؟ «على المستوى الشخصي أكيد أما سياسياً فلا. نظام الأسد مجرم وهذا يقين لا أتخلى عنه. أما العسكري الذي كان يقفل عليّ قضبان السجن فسامحته. أنا لا أحقد شخصياً على أحد اما الإرتكابات العامة فأتابعها للآخر».
القوات تغيرت بعد خروجه، هناك من خرج وهناك من ابتعد وهناك من أبعد… يقاطعنا بالقول: «هناك مثل يقول: أضرب الراعي يتشتت القطيع. الحمدلله القوات اللبنانية خرجت بأقل أضرار ممكنة؟ وأتذكر من قال: أدخلوا قائد القوات الى السجن فولد مئة قائد قوات. تمنيت وأنا في السجن الإلتفاف حول يسوع الملك (حيث زوجته النائب ستريدا جعجع) وأرسلت بهذه الرسالة الى البعض. قلت لهم: إلتفوا على بعضكم في هذا الوقت وفي أسوأ الحالات أبقوا هادئين الآن الى حين خروجي. وإذا ارتكبت ستريدا أخطاء فهذا ليس وقت المحاسبة. ويستطرد: مثلما تعرفين هناك أشياء رمزية في الحياة ووجود يسوع الملك حينها كان رمزاً. كل حركات التحرر من مانديلا في جنوب أفريقيا الى آخر الدنيا عانوا جراء القمع والإعتقال. وهذا طبيعي».
مطمئن الحكيم اليوم الى مستقبل القوات؟ يجيب: «جداً. كانت الأعوام الـ 18 الماضية مثمرة. وقريباً سنجري إنتخابات داخلية يكتمل فيها عنقود التنظيم». لكن، هناك من يرى العكس خصوصا أن التيار الوطني الحر يتحدث أيضا عن التنظيم في ظل تشكيك بذلك؟ يجيب: «لا يمكن المقارنة بين القوات والتيار الذي هو شيء آخر تماماً. القوات بنيت حجراً فوق حجر، وقلباً مع قلب. وثبت أن العواصف لا تهدها».
نريد أن نتابع بعد. جدول أعمال الحكيم في معراب مليء بالمواعيد. نسأله عن صداقاته مع السياسيين؟ يجيب: «أنا لا اعادي أحداً بغض النظر عن الإختلاف في وجهات النظر».
“لا معنى لحياة من دون معنى”
في الختام يكتب الحكيم خلاصة تجربته الحافلة: لا معنى لحياة من دون معنى. أما الخلاصة التي نخرج بها نحن: لا إنفراج إلا بعد شدة ولا معنى للحرية إلا بعد أسر والحياة بكل ما فيها تقف دائماً على حدّ الوسطية بين حقّ وباطل وبين عدل وظلم».
نترك الحكيم يعود من الذاكرة الى التفاصيل اليومية. فلديه الكثير لينجزه.
المصدر: نداء الوطن