“البلد وسط كارثة معيشية والناس صبرها قد نفد”…المفتي قبلان للبنانيين في رسالة رمضان: مهما اختلفنا لا يجوز أن نختلف على إنقاذ البلد
وجه المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان ، لمناسبة حلول شهر رمضان المبارك هذا العام، كلمة إلى اللبنانيين عموما والمسلمين خصوصا من على منبر مسجد الإمام الحسين(ع) في برج البراجنة، هنأهّم فيها بحلول هذا الشهر المبارك . وفي ما يأتي نصها:
أولا – لا بد في شهر الصيام العظيم أن نرفع أيدينا إلى الله سبحانه وتعالى خاشعين، كي يمنّ على هذا البلد المظلوم برحمته وعطفه وبركاته، وهو رب العطف واللطف والرحمة والإحسان، وقد قال سبحانه في كتابه العزيز {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، حيث حسم سبحانه قضية هذا الشهر المتفرّد عليه بأعظم بيّناته وفرقانه، وكفاه فخراً أن المولى جلّ وعلا اختصه بالقرآن العظيم.
وعليه، بالمنطق القرآني، شهر رمضان شهر الله الأكبر، بما يعنيه من رحمة ورأفة بالخلق، وإنعام وربوبية وخير وإحسان وعفو وعافية وعطاء. والدعوة موجهة من الله الخالق لكل خلقه وناسه، هذه الدعوة تربط الأرض بالسماء، وتضع الإنسان أمام ملكوت الله، وتخوّل الصائم فرصة لا مثيل لها إلا في مثل هذه الأيام المخصوصة والمتفرّدة على الله. ولكلّ صومه ونسكه وطريقة عبادة ربّه، والإسلام والمسيحية في ذلك سواء.
وأهم ما في الصوم أيها الإخوة هو الحق، بخلاصة ما يعنيه الفرقان بشؤون الخلق والناس، وطريقة العيش، ونمط الحياة والتفكير، وهذا يعني أن معركة الله في الأرض تدور مدار الحق.
لذلك، فإن دعوة الله في هذا الشهر التي تضع الأرض بعين السماء، موجّهةٌ لكل الخلق، إلا الفاسد والظالم والطاغية والخائن والمتعسّف بحقوق خلق الله تعالى.
من هنا حين أكّد الله دعوته لخلقه، خصّ منهم الرؤوف والعطوف بخلقه وناسه. والرأفة الفردية رغم أهميتها إلا أنها أكثر أهمية بصيغة النظام الاجتماعي والسياسي، وعالم الأرزاق والتجارة والأسواق، لأن مفهوم الدين بالصيغة الاجتماعية يعني سياسات اجتماعية، وبرامج أخلاقية، ومهنية، وإنسانية، يكون الإنسان فيها “أولاً”، بخلفية نسف أي سبب أو بيئة أو هيكل للفساد السياسي والاجتماعي والمالي والاقتصادي، ليبقى الإنسان عظيماً كما يريده الله سبحانه وتعالى.
وبالمعنى القرآني أيها الإخوة “الدين يجمع ويضمن ويكفل ويحمي كل الخلائق”، وفق مبدأ {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} بمعنى أن عين الله تعالى على الإنسان بما هو إنسان، بعيداً عن الملّة والطائفة والمذهب والاعتقاد كأصل أوّل، وهو ما نريده لهذا البلد المظلوم والمحروم. وهنا أخاطب الكنيسة كبيت للرب فأقول: يا إخوتي وأهلي، أعيادنا أعيادكم، وشراكتنا بالله تكفي لأن نكون خلقه وعياله، ولا شيء أفخر من أن نكون خلق الله تعالى.
وأقول للمقامات الروحية والسياسية: قد نختلف بالسياسة لكن حرام أن نختلف بالإنسانية والانتماء لله، وقد نختلف بالأولويات الوطنية، لكن حرام أن يتحوّل اختلافنا قطيعة ومتاريس، وصدّقوني لبنان للجميع، ولن يكون إلا للجميع، ولن نقبل أن نعيش مسلمين بلا مسيحيين، كما لن نقبل بتغليب مصلحة المسلم على مصلحة المسيحي، وهذا رأس أولوياتنا حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وبالسياسة أقول: التمثيل السياسي لفريق مسلم أو مسيحي، أو شيعي أو سني أو درزي أو ماروني، لا يعني إلغاءً للآخر أيٍّ كان، ولا يجوز ذلك ولن نقبل به، وليكن الله جامع كلمتنا وشراكتنا إلى الأبد.
وطنياً، البلد مكشوف للغاية، والأسوأ بطريقه إلينا، والوضع كارثي في المنطقة والعالم، ولبنان سيتأثر بشدة بالوضع الدولي الجديد، والمطلوب سريعاً: إنشاء “هيئة طوارئ وطنية” تتجاوز التفصيل السياسي، حمايةً للبنان وشعبه، لأن الكارثة الأوكرانية بطريقها إلينا. وهنا ألفت إلى الكارثة المالية النقدية التي كشفت البلد عن أسوأ إفلاس ونهب. وأحذر بشدة من أي توزيع للمسؤوليات على طريقة تحميل الناس وحماية من نهب.
ووطنياً إن أوّل ما يحتاجه هذا البلد هو “التصحيح السياسي”، وفقاً لمفهوم “دولة المواطنة”، بعيداً عن طاعون الطائفية السياسية، وبما يضمن كل مواطن بعيداً عن ملّته وطائفته، ولا قيمة للتصحيح السياسي إلا بطائف مالي جديد، لأن أبواب الكوارث أصبحت متعددة “.
أضاف قبلان :” أما انتخابيا فكل المعطيات تؤكّد أننا في طريقنا للانتخابات النيابية، وهنا لا بد أن أؤكّد على المسلّمات التالية:
أولاً :لا يمكن للبنان أن يكون إلا توافقياً وميثاقياً.
ثانياً، لبنان المسيحي هو لبناني أنا، ولبنان الكنيسة هو لبناني أنا، ولبنان جبل كسروان هو لبناني أنا، ونتمنى تطوير الصيغة السياسية ليكون لبنان المواطنة، لبنان الجميع بعيداً عن مرض الطائفية الخبيث الذي مزّق القيمة الحقوقية لمشروع الدولة والمؤسسات.
في المقابل لبنان الفساد هو العدو، وهو الخصم، ولا بد من كسر مادة الفساد، وتغيير بنية الدولة الفاسدة، وتصحيح مشروع السلطة، بما يضمن حقوق المواطنة فقط، لأن الحصص الطائفية مزّقت البلد وحوّلته أشلاء”.
وتابع المفتي قبلان:”المطلوب أيها الإخوة، وطنياً وسياسياً وانتخابياً، حماية مشروع الدولة والجيش والقوى الأمنية، وإنقاذ السلطة النقدية، ولجم مافيا المال، وتطوير بنية السلطة القضائية، لتشكّل مركز الثقل بالعدالة المجرّدة، البعيدة عن الحسابات السياسية والطائفية. وموقفنا الانتخابي كان وما زال على ضرورة تأمين أغلبية نيابية قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية لإنقاذ البلد من وحشية الإفلاس والحصار الأمريكي”.
وختم المفتي قبلان : “أخيراً أيها الإخوة، البلد في أسوأ حالات إفلاسه، وسط كارثة مالية نقدية اقتصادية معيشية لا سابق لها، والناس مظلومة، ومنهوبة، وصبرها قد نفد، ولم تعد تطيق لعبة العفاريت. فالمطلوب من القوى السياسية أخذ قرار شجاع، بما يؤمّن المصلحة اللبنانية الإنقاذية، خاصة على مستوى معامل الكهرباء، والبنزين والغاز والمازوت، والأسواق، وسكة الحديد، والبنية التحتية، وأي إصرار على رفض العروض المساعدة للبنان، سواء كانت الصينية أو الروسية أو الإيرانية أو غيرها، يعتبر فتكاً للبنان، لأن هذه العروض هي لصالح لبنان ودون أي ثمن سياسي بالمقابل. فكفاكم انبطاحاً وخوفاً من الأمريكي، لأنه لن ينفعنا ولن ينفعكم، وأولوياته مقدّمة على أولويات لبنان ومصالحه. ومع ذلك مهما اختلفنا، لا يجوز أن نختلف على إنقاذ البلد، خاصة أنه مكشوف عن كارتيلات دواء وكهرباء ونفط واحتكار شامل للأسواق، والحاجات الضرورية، وأعذاركم ممنوعة، فبلدنا مقسوم بين قلّة ثرية جداً، وكثرة فقيرة جداً، وسط جنون احتكاري طال كل شيء، وانعدام قدرة الناس على الصبر، وشلل قاتل تعاني منه الدولة؛ والمزيد من تسونامي الضرائب يعني مذبحة معيشية واقتصادية جديدة فوق كاهل اللبنانيين، ولن نقبل لشعبنا أن يذبح كل يوم”.